شرح مقدمة التفسير لابن تيمية
الخلاف بين السلف في التفسير
فصل: والخلاف بين السلف في التفسير قليل . وخلافهم في الأحكام أكثر من خلافهم في التفسير. وغالب ما يصح عنهم من خلاف يرجع إلى اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد .
وذلك صنفان: أحدهما: أن يعبر كل واحد منهم عن المراد بعبارة غير عبارة صاحبه، تدل على معنى في المسمى غير المعنى الآخر، مع اتحاد المسمى، بمنزلة الأسماء المتكافئة التي بين المترادفة والمتباينة. كما قيل في اسم السيف الصارم، والمهند. وذلك مثل أسماء الله الحسنى، وأسماء رسوله صلى الله عليه وسلم وأسماء القرآن.
فإن أسماء الله كلها تدل على مسمى واحد. فليس دعاؤه باسم من أسمائه الحسنى مضادا لدعائه باسم آخر، بل الأمر كما قال تعالى: رسم> قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى قرآن> رسم> .
وكل اسم من أسمائه يدل على الذات المسماة، وعلى الصفة التي تضمنها الاسم. كالعليم يدل على الذات، والعلم . والقدير يدل على الذات، والقدرة . والرحيم تدل على الذات، والرحمة. ومن أنكر دلالة أسمائه على صفاته ممن يدعي الظاهر فقوله من جنس قول غلاة الباطنية القرامطة الذين يقولون: لا يقال هو حي، ولا ليس بحي بل ينفون عنه النقيضين.
فإن أولئك القرامطة الباطنية لا ينكرون اسما هو علم محض كالمضمرات. وإنما ينكرون ما في أسمائه الحسنى من صفات الإثبات. ومن وافقهم على مقصودهم كان مع دعواه الغلو في الظاهر موافقا لغلاة الباطنية في ذلك. وليس هذا موضع بسط ذلك، وإنما المقصود أن كل اسم من أسمائه يدل على ذاته وعلى ما في الاسم من صفاته. ويدل أيضا على الصفة التي في الاسم الآخر بطريق اللزوم.
وكذلك أسماء النبي صلى الله عليه وسلم مثل محمد اسم> وأحمد اسم> والماحي اسم> والحاشر اسم> والعاقب اسم> وكذلك أسماء القرآن مثل القرآن، والفرقان، والهدى، والشفاء، والبيان، والكتاب. وأمثال ذلك. فإذا كان مقصود السائل تعيين المسمى عبرنا عنه بأي اسم كان إذا عرف مسمى هذا الاسم. وقد يكون الاسم علما وقد يكون صفة. كمن يسأل عن قوله: رسم> وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي قرآن> رسم> ما ذكره؟ فيقال له: هو القرآن مثلا، أو ما أنزله من الكتب. فإن الذكر مصدر والمصدر تارة يضاف إلى الفاعل وتارة إلى المفعول. فإذا قيل: ذكر الله بالمعنى الثاني كان ما يذكر به، مثل قول العبد: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر.
وإذا قيل بالمعنى الأول كان ما يذكره هو وكلامه. وهذا هو المراد في قوله: رسم> وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي قرآن> رسم> ؛ لأنه قال قبل ذلك: رسم> فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى قرآن> رسم> وهداه هو ما أنزله من الذكر. وقال بعد ذلك: رسم> قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا قرآن> رسم> والمقصود أن يعرف أن الذكر هو كلامه المنزل، أو هو ذكر العبد له.
فسواء قيل: رسم> ذِكْرِي قرآن> رسم> كتابي، أو كلامي أو هداي أو نحو ذلك فإن المسمى واحد.
وإن كان مقصود السائل معرفة ما في الاسم من الصفة المختصة به فلا بد من قدر زائد على تعيين المسمى. مثل أن يسأل عن القدوس، السلام، المؤمن وقد علم أنه الله. لكن ما معنى كونه قدوسا، سلاما، مؤمنا، ونحو ذلك؟ إذا عرف هذا فالسلف كثيرا ما يعبرون عن المسمى بعبارة تدل على عينه، وإن كان فيها من الصفة ما ليس في الاسم الآخر، كمن يقول: أحمد اسم> والحاشر اسم> والماحي اسم> والعاقب اسم> والقدوس: هو الغفور الرحيم، أي إن المسمى واحد لا إن هذه الصفة هي هذه. ومعلوم أن هذا ليس اختلاف تضاد كما يظنه بعض الناس. مثال ذلك تفسيرهم لـ رسم> الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ قرآن> رسم> فقال بعضهم: هو القرآن؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث علي اسم> الذي رواه الترمذي اسم> ورواه أبو نعيم اسم> من طرق متعددة هو: رسم> حبل الله المتين، والذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم متن_ح> رسم> .
وقال بعضهم: هو الإسلام؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث النواس بن سمعان اسم> الذي رواه الترمذي اسم> وغيره: رسم> ضرب الله مثلا صراطا مستقيما وعلى جنبتي الصراط سوران. وفي السورين أبواب مفتحة وعلى الأبواب ستور مرخاة. وداع يدعو من فوق الصراط. وداع يدعو على رأس الصراط. قال: فالصراط المستقيم هو الإسلام، والسوران حدود الله، والأبواب المفتحة محارم الله، والداعي على رأس الصراط كتاب الله، والداعي فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مؤمن متن_ح> رسم> .
فهذان القولان متفقان؛ لأن دين الإسلام هو اتباع القرآن. ولكن كل منهما نبه على وصف غير الوصف الآخر. كما أن لفظ الصراط يشعر بوصف ثالث. وكذلك قول من قال: هو السنة والجماعة، وقول من قال: هو طريق العبودية، وقول من قال: هو طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وأمثال ذلك. فهؤلاء كلهم أشاروا إلى ذات واحدة لكن وصفها كل منهم بصفة من صفاتها.
ابتدأ في هذا الفصل يذكر ما حدث من السلف من الاختلاف في التفسير، وأنه ليس تفسيرا متضادا. يقول: الخلاف بين السلف في التفسير قليل . والمراد بالسلف الصحابة والتابعون، وتابعو التابعين، أو أهل القرون الثلاثة المفضلة. هؤلاء يطلق عليهم السلف . والقرن الرابع وما بعده إذا كانوا صالحين يسمون الخلَف، وإذا كانوا مخالفين يسمون الخلْف رسم> فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ قرآن> رسم> .
فيقول: إن الخلاف بين السلف رحمهم الله قليل في التفسير . وخلافهم في الأحكام أكثر من خلافهم في التفسير. يعني وقع خلاف في الأحكام فتجدون بين الحنفية والمالكية خلافا في الأحكام، وكذلك بين المالكية، والشافعية مع أن الشافعي اسم> رحمه الله تلميذ مالك اسم> روى عنه موطأه. ومع ذلك خالفه. خالفه في أشياء كثيرة. واختلف الأئمة الأربعة حتى في مسألة واحدة.
مسألة>